أسهب الصديقان أشرف الشريف وعمرو عادلي، في شرح الخلل البنيوي المصاحب لإعادة تأسيس النظام التسلطي فى مصر وأنه يحمل فى ثناياه بذور فنائه بسبب تناقضاته الهيكلية. وبالرغم من أن الصديقين كليهما يتفقان حول حتمية سقوط هذا النظام فإن الاختلاف (وليس الخلاف) بينهما يكمن فى المدى الزمني لهذا السقوط. فبينما يرى أشرف (أو هكذا بدا لي) أن سقوط هذا النظام قد يحدث فى أية لحظة نظراً لتناقضاته الداخلية غير المحتملة، فإن عمرو يرى بأن هذا النظام وتحالفاته وأذرعه قادرون جميعاً على البقاء والتعاطي بذكاء مع الأزمة الاقتصادية-الاجتماعية الراهنة (خاصة فى ظل الانكسار المرحلي لثورة يناير)، وهو ما قد يطيل عمر هذا النظام ويمكّنه من البقاء ولفترة. وقد لخص عمرو أطروحته فى عبارة وجيزة عَنْون بها مقاله وهي "البقاء ليس دائماً للأفضل".
بوجه عام أتفق مع تحليل وخلاصات أشرف وعمرو، وأرى أنهما يقدمان وجبة دسمة ومهمة لتحليل طبيعة النظام الجديد/القديم كما أسمياه واستشراف مصيره، وحيث لا يمكنني الادعاء بامتلاك ناصية الاقتصاد السياسي كما هو الأمر في تحليل الصديقين، كما أنني لا أمتلك قدرتهما وجرأتهما البحثية على إصدار أحكام عامة أو نهائية بشأن الظواهر الاجتماعية والسياسية قيد الحركة والتشكل، فإنني أرى من المهم أن نأخذ النقاش حول مستقبل النظام إياه إلى مستوى جديد يكمل ولا يناقض ما يطرحه الصديقان، مما يمكننا ليس فقط من كشف نقاط القوة والضعف فى النظام الجديد/القديم، والتي تبدو واضحة لكل ذي بصيرة، وإنما أيضاً من كشف مكامن العطب فى محركات الثورة، أو بالأحرى القوى المحركة للثورة ومحاولة العمل (إن أمكن) على إصلاح هذا العطب ومن ثم استعادة الثورة وأهدافها ولو على المدى الطويل نسبياً.
بتعبير آخر، إن سقوط النظام الجديد/القديم ليس مرهوناً باختلالاته وتناقضاته الداخلية فحسب وإنما أيضاً بقدرة الطرف الآخر للصراع (القوى الحية الراغبة والقادرة على التغيير) على الاستفادة من هذه الاختلالات لطرح نفسها بديلاً لهذا النظام بعد انهياره. فلربما يسقط النظام ويأتي من يحل محله من نفس جنسه ولونه وسياساته.
من هنا أرى أن مدخل الاقتصاد السياسي، على أهميته الفائقة في تحليل البنية التحتية للصراع، إلا أنه يجب أن يتم تسكينه ضمن إطاره الأوسع، وهو سوسيولوجيا الثورات، الذي يكشف لنا عن الصورة الكلية التي تحكم ديناميات الصراع وتفاعلاته وربما تساعدنا فى التنبؤ بمآلاته.
باختصار ودون استطراد فإن ما أقصده هو أن فهم والتسليم بالقصور الذاتي للنظام الجديد/القديم ربما لن يفيد كثيراً فى استشراف مستقبله دون النظر لبقية المكونات أو الفاعلين المنخرطين فى الصراع مع هذا النظام وقدرتهم ليس فقط على إسقاطه وإنما أيضاً الحلول محلّه علي غرار ما حدث فى حالات أخرى مشابهة. وهو أمر على درجة كبيرة من الأهمية ليس فقط لأن هذا النظام لا يعمل فى فراغ وإنما أيضا لأن سياساته وقراراته وتكتيكاته هي (فى جزء منها) الوجه الآخر لسياسات وقرارات وتكتيكات بقية الأطراف.
من هنا أرى أنه لا مندوحة عند الحديث عن سقوط أو إسقاط النظام الذي يتم ترميمه وإعادة بنائه أن يجري الحديث عن أربعة عناصر (أو شروط) أساسية من أجل تحقق هذا السقوط، ومن ثم نجاح أي عمل ثوري أو تغييري وهي: قيام تكتل أو حركة ثورية متناغمة، حاضنة اجتماعية متنوعة، أجندة راديكالية للتغيير، تعجيز الدولة والاستيلاء على السلطة.
صناعة الكتلة/الحركة الثورية
يقدم كلٌّ من جيف جودوين، أستاذ الحركات الاجتماعية والسوسيولوجي بجامعة نيويورك، وجون فوران أستاذ السوسيولوجيا وعلم الثورات (إن جاز استخدام هذا التعبير) بجامعة كاليفورنيا-سانت بربرا، تحليلاً رصيناً ومهماً لفهم ديناميات الثورة وتفاعلاتها واستجابة الأنظمة المختلفة لها والأهم من ذلك ديناميات وتفاعلات مرحلة ما بعد الثورة. وبالرغم من الاختلاف المنهجي بينهما في تفسير الثورات (أو التغيير الثوري بالأحرى)، حيث يركز جودوين على دور الدولة state-oriented approach وطبيعة السياق السياسي المنشئ للتفاعلات الثورية بينما يركز فوران على طبيعة العملية ذاتها process-oriented approach من حيث تفاعلات اللاعبين وإيديولوجيتهم وثقافتهم وطبيعة النظام الدولي، فإن كليهما يتفقان على أمر واحد وهو: حتمية وجود حركة/كتلة/ائتلاف ثوري يمكنها لا استغلال اللحظة الثورية وإسقاط النظام (على غرار ما حدث في 25 يناير) فحسب وإنما أيضا الوثوب إلى السلطة وملء الفراغ وفرض الأجندة الثورية. في هذا الصدد فإن أدب الثورات ومحاولاتها فى أمريكا اللاتينية (المكسيك 1910-1920، كوبا 1953-1959، نيكاراغوا 1977-1979، السلفادور 1979-1992) وأوروبا الشرقية (بولندا، المجر، بلغاريا، رومانيا، تشيكوسلوفاكيا) وآسيا (الصين 1911-1949) وجنوب شرق آسيا (الفلبين 1986، إندونيسيا 1998) غني بالأمثلة التي تخبرنا بأهمية وضرورة وجود كتلة أو حركة ثورية عابرة للطبقات cross-class والإيديولوجيات cross-ideology ومتعددة الأعراق multi-racial من أجل تحقيق التغيير الثوري. والأمر هنا يتجاوز مجرد الالتقاء المرحلي أو التكتيكي بين هذه القوى والكيانات بهدف إسقاط النظام (على غرار ما حدث عشية 25 يناير) إلى تشكيل كتلة اجتماعية/سياسية تتبنى أهداف الثورة ومبادئها وتضع خطة عملية لمرحلة ما بعد إسقاط النظام. وهو ما يتطلب قدر من المداولات والتفاوض بين أطياف هذه الكتلة أو الحركة قبل المضي قدماً.
نظرة خاطفة للوضع الراهن فى مصر ربما تعطي الانطباع بأن فرص إنشاء هذه الكتلة أو الحركة الثورية المتماسكة ربما لا تبدو متوافرة، أو هى أقرب للحلم وضرب من الخيال فى ظل التفتت والتشتت الذي ضرب القوى والحركات الاحتجاجية خلال الأعوام الثلاثة الماضية. لكنّ نظرة أكثر تأنياً وعمقاً تكشف أن العكس هو الصحيح. فمعظم الحركات الثورية أو التغييرية قد نشأت فى ظل الديكتاتوريات والأنظمة السلطوية القمعية (أحد شروط قيام الثورة أصلاً هو وجود هذه الأنظمة) وذلك لسببين رئيسيين: أولهما هو القمع الممنهج غير المميِّز (بكسر الياء) للنظام، أي الذي لا يفرق بين فصيل وآخر بغض النظر عن انتمائه الإيديولوجي، وثانيهما هو عدم قدرة كل فصيل لوحده على تشكيل تحدٍّ حقيقي للنظام القائم.
هنا قد يُثار سؤال مشروع وهو: كيف يمكن التغلب على الخلافات والتناقضات الإيديولوجية والعقائدية بين القوى أو الفصائل التي تمثل القلب الصلب core لهذه الكتلة الثورية؟ هنا تطرح الخبرات السابقة أحد حلّين: الأول (وهو الأسهل عملياً) العمل على استقطاب التيار الأكثر واقعية أو قرباً داخل القوى العقائدية المغلقة إن وجد، والثاني (وهو الأصعب) التغاضي عن وجود هذا الفصيل من الأصل ومحاولة خلق (أو العمل معه إن وجد) فصيل مشابه له إيديولوجياً وإنما لا يتفق معه سياسياً. في حين يتمثل الحلّ الأمثل في قدرة الكتلة الثورية على تجذير نفسها ضمن حاضنة اجتماعية واسعة قد تمكّنها من عزل القوى التقليدية، أو دفعها لتغيير أفكارها من أجل الانضمام للكتلة الثورية.
حاضنة اجتماعية متنوعة
قيام الكتلة أو الحركة الثورية بحد ذاته لا يوفر ضماناً لنجاح الثورات أو حتى إمكانية إسقاط النظام ما لم يتوافر لها حاضنة اجتماعية متنوعة. ففى معظم التجارب الثورية سواء فى أمريكا اللاتينية أو أوروبا الشرقية فإن فئات العمال والفلاحين والطبقات الدنيا والوسطى وأحياناً الشرائح العليا لعبت دوراً مهما ليس فقط فى نجاح الثورة فحسب (وذلك بفضل قدرتها على التعبئة والحشد) وإنما أيضا فى نجاح المسار السياسي بعد الثورة. ولعل أحد العوامل التي أدت إلى الانتكاسة الراهنة لثورة يناير هو عدم استثمار القوى الثورية لرأس المال الاجتماعي الذي ظهر خلال الثورة ولعب دوراً مهما فى الإطاحة بنظام مبارك (إضرابات العمال والعصيان المدني خلال 18 يوماً). فى حين أن أحد الفوارق المهمة (بالإضافة إلى الفوارق الأخرى) بين حالتي مصر وتونس هو الدور المؤثر والقويّ الذي لعبته المؤسسات المجتمعية الوسيطة مثل اتحاد الشغل، والحركات النسائية، ومنظمات المجتمع المدني ليس فقط فى إسقاط النظام وإنما أيضاً فى ضبط سلوك المسار السياسي بعد الثورة.
بيد أن الدور الأهم الذي تلعبه الحاضنة الاجتماعية هو خلق كتلة مضادة لتلك التي تستخدمها الأنظمة السلطوية من أجل تبرير قمعها وعنفها وسيطرتها. نظرة بسيطة للواقع المصري تكشف أن الحاضنة الاجتماعية للثورة لا تزال موجودة وذلك رغم المحاولات الحثيثة للنظام الجديد/القديم بناء كتلته المضادة للثورة (كتلة تسلم الأيادي أو حزب الكنبة) وذلك ليس فقط بسبب الاختلالات الهيكلية التي تحدث عنها الشريف وعدلي والتي سوف يظهر أثرها عاجلاً أو آجلاً، وإنما أيضا بسبب التقلب الشديد والسريع فى المزاج العام، ناهيك عن العامل الديموغرافي المهم الذي يقذف يومياً مئات الآلاف من الشباب الذي يتوق إلى الثورة والتغيير. فضلاً عن ذلك المواطن البسيط الذي يضع حذاء العسكر فوق رأسه أو تلك المواطنة المسكينة التي رقصت طرباً لدستور جرت كتابته على طريقة "علي بابا والخمسين حرامي"، سوف ينفضون عن سيرك السلطة بعد فترة وجيزة من وصول الساحر إلى منصة التتويج واكتشاف خوائه وكذب أطروحته حول الوطنية والدولة والاستقرار.
بعبارة أخرى، إن الفرصة تبدو، على عكس ما يرى البعض، مواتية لبناء حاضنة اجتماعية تضم العمال والفلاحين (المتضررين من السياسات العقيمة للدولة) والطلبة وبقايا المثقفين التقدميّين فضلاً عن شرائح الطبقات الدنيا والوسطى وبعض شرائح الطبقة العليا التي ترغب فى الاستقرار الحقيقي المبني على التغيير وليس مجرد البقاء ضمن إطار صراعي يهدد مصالحهم ونمط حياتهم. ورغم حالات القمع والتضييق والتشويه التي تتعرض لها التيارات الديمقراطية الناشئة، فإن ثمة مساحة لا تزال متاحة لها سواء فى الإعلام البديل أو الانترنت قد تساعد فى استقطاب وبناء الحاضنة الاجتماعية وتوسيعها والاستفادة من تناقضات النظام واختلالات سياساته
أجندة راديكالية للتغيير
تظل الثورة، بمعنى من المعاني، هي النقيض للوضع القائم حتى وإن كان ثورياً (ديالكتيك الثورات والثورات المضادة التي تعود بجذورها إلى الهيجلية). وذلك إلى الدرجة التي جعلت إريك هوبزباوم يقول بأن "الثورات تبتلع بعضها بعضاً مثلما فعلت الثورة الصناعية في بريطانيا مع الثورة الاجتماعية فى فرنسا". لذا فإن إنشاء علاقة مؤسسية بين الكتلة الثورية وحاضنتها الاجتماعية يظل أمراً ضرورياً ومهماً سواء لقيام الثورة أو ضمان نجاحها. ولعل إحدى الأدوات المهمة (إن لم تكن الأهم) فى تمتين هذه العلاقة هو تبني أجندة راديكالية تترجم الأهداف الثورية واقعاً وحقيقة. فقد فشل "الإخوان المسلمون" فى السلطة (من بين عوامل عديدة) بسبب أجندتهم السياسية والاجتماعية المحافظة بل والرافضة أحياناً للتغيير الهيكلي والجذري لمؤسسات الدولة. حتى عندما حاول الرئيس المعزول محمد مرسي تطهير القضاء لم يكن ذلك فى إطار خطة ثورية للتطهير بقدر ما كان جزءاً من الصراع بين الإخوان ومؤسسات الدولة أو هكذا رأته كثير من القوى الثورية. الأكثر من ذلك أن سياسات الإخوان طيلة عامهم فى السلطة لم تساهم فى تهميش واغتراب القوى السياسية فحسب، وإنما أيضا فى تفتيت الحاضنة الاجتماعية للثورة من عمال وفلاحين وطلبة إلى الدرجة التي جعلت هؤلاء يقعون فريسة لقوى الثورة المضادة التي وظفّتهم ولا تزال فى معركتها ضد ثورة يناير.
معظم الحركات الثورية فى أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وجنوب شرق آسيا تبنت أجندة تغيير راديكالية (وذلك بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع هذه الأجندة حيث انتقل البعض إلى الاشتراكية والبعض الآخر إلى الرأسمالية والبعض الثالث إلى النيوليبرالية) كانت كفيلة بمنح الشرعية للكتلة الثورية (أو النظام الجديد بعد الثورة) وتثبيت أقدامها فى مواجهة قوى الثورة المضادة. لوهلة، قد تبدو مقولة "أجندة راديكالية للتغيير" مجرد رطانة أو عبارة إنشائية فارغة المعنى والمضمون، لكنها فى الحقيقة تعكس مدى جدية وعمق إيمان القوى السياسية المنشغلة بالتغيير بالاتساق بين القول والفعل. بعبارة أخرى، لن تتمكن الكتلة الثورية (بفرض قيامها) على توسيع حاضنتها الاجتماعية وإسماع صوتها وجذب التأييد المطلوب لها دون تأطير لأجندتها ضمن النسق الثوري المفتوح وليس وفق شروط وقواعد اللعبة القديمة فهكذا لعب الإخوان ومن خلالها خسروا.
وليس صحيحاً ما يُقال عن أن ثمة كتلة اجتماعية كبيرة فى مصر مناوئة للتغيير، فالصحيح أن هذه الكتلة هى رافضة للتغيير البطيء وغير الجذري والذي يبدو أكثر كلفة بالنسبة لها من بقاء الوضع القديم. بعبارة أخرى، إن الكتلة الرافضة لسياسات الدولة ونظامها الجديد/القديم لا تزال موجودة ولكنها ستظل مترددة ورافضة للانحياز للكتلة الثورية ما لم تر من الأخيرة تماسكاً فى البناء وجدية فى الطرح وإنجازاً فى الفعل. الأكثر من ذلك فإن آلة القمع والعنف الدولتي تعد إحدى أدوات الردكلة والتثوير (radicalization and revolutionaization) لدى الفئات المحافظة وهو ما يبدو بوضوح الآن فى مصر. فقطاعات الطلبة وبعض المحسوبين على القوى التقليدية بدأت فى تبني رؤى وأساليب راديكالية سواء فى التصدي لبطش النظام أو فى رؤيتها لما يجب أن يحدث بعد إسقاطه. والحقيقة التي تبدو واضحة الآن أنه كلما ازداد القمع، ازداد مستوى الوعى والتثوير وربما التطرف لدى القوى الرافضة للوضع القائم.
تعجيز الدولة والوصول إلى السلطة
يري جودوين أنه لا يمكن الحديث عن ثورة بدون أمرين: تعجيز الدولة incapacitation of the state والاستيلاء على السلطة seizing power. أي أن الثورات لا تنجح إلا إذا انهارت الدولة (المقصود هنا انهيار النظام السياسي وعلاقات القوة داخل الدولة وليس سقوط المؤسسات بالمعنى الحرفي أو الفني كما يروّج البعض) ونجحت الكتلة الثورية فى الوصول إلى السلطة. أهمية هذين الشرطين لا تكمن فى كونهما يؤشران على نجاح الثورة خلال مرحلتها الأولى وإنما لأنهما يؤسسان لوضع جديد مختلف تماماً عما كان سائداً من قبل.
وغني عن البيان أن أحد عوامل انتكاسة ثورة 25 يناير أن كلا الشرطين لما يتحققا إلى يومنا هذا. على العكس فقد مهد فشل القوى الثورية في فرض نفسها وأجندتها خلال الشهور الأولى للثورة، ومن بعدها فشل الإخوان فى إعادة الدولة وعلاقات القوة داخلها لصالح قوى الثورة، فى بث الروح فى جسد الثورة المضادة وإعادة تشغيل ماكينتها الدولتية المنتجة للقمع والعنف والاستبداد.
هذا الشرط الأخير المتعلق بالدولة يمثل إحدى النقاط الملتهبة فى الصراع بين قوى الاستبداد والديمقراطية فى مصر. ذلك أنه يلمس وتراً حساساً لدى فئات كثيرة تتبنى سردية الدولة state narrative فيما يتعلق بالقوة والهيبة والمكانة... إلخ، وهو ما قد يجعل هذه الفئات تتردد كثيراً فى الالتحاق ودعم أي كتلة ثورية (خاصة فى ظل سيطرة أطروحات أبلة فاهيتا وحروب الجيل الرابع وغيرها من الخزعبلات على المجال العام). من هنا فإن الكتلة الثورية بحاجة إلى إنتاج خطاب ذكي يتعلق بتفكيك وإعادة ترتيب علاقات القوة داخل بنية الدولة ومؤسساتها لصالح الطبقات والفئات المظلومة والمقموعة والتأكيد على أن الهدف ليس إسقاط الدولة بل على العكس بناءها على أسس من العدالة والكفاءة والتمثيل المجتمعي المتوازن. ومن المدهش أن مقولة "تفكيك الدولة" بدأت تلقى رواجاً ملحوظاً بين قطاعات وفئات متنوعة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار سواء إسلاميين أو يساريين أو اشتراكيين، وهو ما يعني بداية تحول، ولو محدود، فى المخيّلة الجماعية عن الدولة وعلاقتها بالنظام السياسي.
لذا فإن أطروحة سقوط النظام التي يتبناها الشريف وعادلي، على أهميتها، فإنها تكشف فقط الجانب الظاهر أو المعروف من الصراع (أو بالأحرى الجزء المتوقع منه وهو سقوط النظام إن عاجلاً أو آجلاً)، بيد أن الجزء المكمّل له هو شروط وكيفية وهوية الطرف الثاني من الصراع المفترض أن يقود السقوط ويحل محل النظام القائم. من هنا فإن قناعتي، وهنا أختلف مع الصديقين أشرف وعمرو، أن التسليم بالسقوط الطوعي للنظام لمجرد أنه يحمل بذور فنائه وتناقضاته الداخلية، يجب ألا يجعلنا نغفل الجانب الآخر من المعادلة، ذلك أن الأنظمة التسلطية لا تسقط طوعاً.
[انقر/ ي هنا لمقالة أشرف الشريف وهنا لمقالة عمرو عادلي]